أجمل ما في الرجال مؤنث رجولتهم، وهي ككل مؤنث في الشرق مغيّبة حتى إشعار آخر - ماري القصيفي

الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

زائر بلا موعد*

كانت تجلس على الأريكة.. ملؤها الصفاء والسكينة، يرسم رقص الشموع لوحة على محيّاها الهادئ، ويداعب شعرها الكستنائي القصير المنسدل على وجنيتها، ترتدي فستانا أبيضا كبياض الغيوم في ليلة خريفية داعبت أشجارها النسمات، تغازل فنجان قهوتها فتطبع على شفتيه قبلة.

تكتكة الساعة المعلقة على صدر الحائط تشاغب مسمعها، وذلك الكتاب المزركش غلافه بألوان الفراشات والأطلال المتكئة على التل البعيد، تفيض صفحاته بالقصص والحكايات، وتتلون صوره بلون الشموس والأقمار، مستلقيا على الطاولة الخشبية القريبة.. لا يعلوه الغبار، فلم يكن هنا منذ مولد البحر والسماء، كان هنا منذ زمن قريب يشوبه نثر الزهور، ودموع الفجر المغسولة بأوراق الربيع.

التفتت يمنة، عانقت عيناها الكتاب وزفرت.. فما زال مفعما بصفحات خلت من الأحبار، وشيّق الأخبار، وقصص الليل والنهار، كان يرتسم على محيّاها طيف من أحاسيس، وفي قلبها مجرّة بلا شمس، تدور فيها الكواكب، وتبتهج الأقمار وتسطع الأنجم، فتضيء روحها زوايا الغرفة من حولها، كما تضيء تلك الصور المعلقة ببراويزها العتيقة، عبقها المنبعث من نسيم الذكريات.. استمدت جمالها من أرواح عاشت وخلّدت ذكري يعجز الأفق البعيد عن مواراتها، وتلك الأرواح التي ما برحت بين جنبات حياتها يغمرها الدفء والحنين.

تناهى إلي مسمعها طقطقة الخشب، وصرير ذلك المقبض المعدني من تحت الستارة المسدلة على وجه النافذة، لم تكن مسدلة تماما، كان القمر يرسل لجينه نديما، ويغازل طيفها المرتسم على وجهها الهادئ، التفتت جزعة إلى اليسار صوب النافذة.. فما باله دخل غرفتها دون أن تسمح له بالدخول.. كلصّ عابث صغير تسلل عبر النافذة وانتزع سكينتها ..؟!

كان يرتدي ثيابا جميلة من غزل القمر، بوجهه مسحة من نور، ومن بين كفيّه يفور ينبوع ماج بصدح الطيور، ورفرفة الفراشات، وحفيف الأشجار، وتلك الشرنقة المنسوجة من أحاسيس، يسبقها شوقها لأن تولد في حضن وردة ملؤها السكينة، ينام الحلم على وجنيتها، ويصافح الفرح كفيّها.

صمتت برهة.. فما عرف فكرها النديّ ما يقول، ولا كان لقلبها الغضّ كتلك الشرنقة أن يعي من يكون هذا المتسلل وجدائل القمر إلى سديم مجرتها وفضاءات كونها.. سألته بصوت خافت ممزوج بالحنين: "من أنت؟.. ولم تنساب شمسك في جوف مجرتي؟.. من أرسلك لتبعثر هدأتي، وتسقط النجوم من فضاءاتي؟"

تنهّدت... وانكبّت على كتابها تطوى صفحاته يمنة ويسرة، كصيّاد أضاع شبكته فخاض البحر باحثا عنها، استرقت إليه النظر ، والقلق يزاحم فكرها، والخوف يمور في صدرها..

نظر إليها وما تزال الفراشات ترفرف والطيور تصدح بين كفيّه، وهمس بنبرة عاشق لمعشوق، من بعد فراق طويل: "على رسلك يا صغيرتي.. فإني هنا منذ مولد البحر والسماء.. أنا وحي الشاعر، وريشة الفنان، ووتر العازفين لحن الغروب، ما الحبّ إلا ... نديم للقمر، وعشيق السهد وصديق المطر، أتيت إليك زائرا بلا دعوة، فلا تدوّن بطاقات الدعوة باسمي، ولا أشنّف أذنيّ لهتافات الناس، بل أنا من يهتف لقلوبهم ويناجي أرواحهم.. خلقت لأتسلل عنوة، فينهال الفيض الدفين، لأشعل شمعة، فيتبدد الليل الحزين، لأنثر المطر في البيداء، والورد في الفيحاء، ذاتي هي من ترسلني لتهب شموسا لفضاءات خلت إلا من فضاءاتها، فترتجف الأكوان، وتتهاوى النجوم."

صمت عن الكلام، وغرقت أرجاء الغرفة في لجّة السكون، ثم أردف قائلا: "سليني يا صغيرتي، فلا أملّ لك ردّا، ولا أكلّ سردا." سكت عن الكلام، وما برح الينبوع يفور من بين كفيه.

أطرقت برأسها تفكّر، ومن ثم همست قائلة: "حسنا أيها الأرعن، لن أكفّ عن الأسئلة حتى أدرك كينونتك المعشّقة بوهج القمر."

... ابتسمت، ثم أردفت هامسة: " قل لي.. من أين أتيت؟"

ضحكت مباسم الزهر في شفتيه، وقال: "سليه ولا تسأليني، ما انفكّ يطالع وجهك القمري في حضن السماء، حتى خبت النجوم في عينيه، وفي قلبه شمعة من جوى تذوب احتراقا ولا تفنى، أتيت إليك محلقا من ذاك البحر البعيد، حاملا مرجانه هدايا من النورس الذي عاد، تمرّغ بأنفاسك وتوسّد أضلعك، خالج أعماقه الحنين، فبتّ مرساه وسكناه."

صمت، فغرقت أرجاء الغرفة ثانية في لجّة السكون..

دقّت الساعة مجلجلة لتمزق الصمت.. معلنة عن انقضاء وقت من عمر الحياة، عانقت عيناها بندول الساعة، فعاد بها إلى الزمن القديم، لا ينثر الغبار، فلم تكن هنا منذ مولد البحر والسماء، كالبندول يوما على أرجوحتها المتراقصة، في حديقة المنزل المفعمة بروح الفل والياسمين، وتلك الأغصان المزدانة بأوراقها ربيعاً وخريفاً تناجي النسيم، كان الكتاب جليسها، والحلم نديمها..

" صغيرتي!!"...

عاد بها صوته إلى هنا، حيث رقص الشموع، وزركشة الكتاب، وأرجحة البندول، وتلك الصور العتيقة المعلقة على صدر الحائط، أردف قائلا: "الكلام وإيّاك لا ينضب، وسيل الحروف لا ينفد، ولكنّ خير الكلام إن دلّ قليله..!"

صمت عن الكلام المباح، وأشاح بثوبه، ولملم أطرافه في وجل، كاشفا عن بلبل مغرّد على غصن أزهق الخريف أوراقه، وبكاه الليل الحزين..

لبسها القلق ثوبا، واحتواها الشجن موجا، رمشت عيناها لوهلة، سألته والحيرة تسري في روحها، كسريانه هو في عروقها: "أيها الزائر المتسلل عبر أبوابي الموصدة، وأسواري المجلمدة، لم انتزعت منّي سكينتي؟"

... ارتعش قلبها المغسول بنور ينبوعه، فقد خيّل إليها طيفه يتلاشى خلف عباءات الليل الحزين، رمشت بطرفها مرة أخرى، لعلها تراه ثانية، لا .. لم يعد هنا.!.. جالت عيناها في زوايا غرفتها المصقولة بالحنين، لم يكن هنا سوى... ترانيم المطر..!!

... تنقر حبّاته المشحونة بالأنين زجاج النافذة، ويلاطم الريح إطارها الخشبي، موبّخا تلك الستارة المنسابة على طرفه، فلم تكن مسدلة تماما، فها هو القمر يشيح بوجهه عنها، خلف عباءات الليل الحزين..

طفقت تبحث في قلبها.. فوجدت بلبلا مغرّدا، وما وجدت شمسا.. ولا مجرّة ...!

. .

.

*مجلة سمرة ٢٠٠٥